(1849 كلمة)
الحمد لله، والصلاه والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، به تستجلب النعم، وبمثله
تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة،
وحياة الأرواح. ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا
يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال.
ولما كان ذكر الله بهذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية فأجدر
بالمسلم أن يتعرف على فضله وأنواعه وفوائده، وفيما يلي صفحات من كلام
العلامة ابن القيم، نقلناها باختصار من كتابه "الوابل الصيب". قال رحمه
الله:فضل الذكر
عن معاذ بن جبل
قال: قال رسول الله
:
{
ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير
لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا
أعناقكم } قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
{ ذكر الله عز وجل } [رواه أحمد].
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى، عن النبي
قال:
{ مثل الذي يذكر ربه، والذي لايذكر ربه مثل الحي والميت }.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
:
{
يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم،
وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا،
وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة }.
وقد قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41]، وقال تعا لى:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، أي: كثيراً. ففيه الأ مر با لذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ( لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل ).
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه
بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء. فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا
ذكره جلاه.
و صدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
قال تعالى:
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط [الكهف:28].
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر، أو من
الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى
وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط، لم يقتد به، ولم يتبعه فإنه يقوده إلى
الهلاك.أنواع الذكر
الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى، وهذا
أيضاً نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو ( سبحان الله عدد خلقه ).
النوع الثاني: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله
من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع أيضاً ثلاثة أنواع:
1 - حمد.
2 - وثناء.
3 - و مجد.
فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا
به، فإن كرر المحامد شيئاً بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال
والعظمة والكبرياء والملك كان مجداً.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد:
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله:
{ حمدني عبدي }، وإذا قال:
الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ قال:
{ أثنى عليّ عبدي }، وإذا قال:
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال:
{ مجّدني عبدي } [رواه مسلم].
النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه: وهو أيضاً نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا، ونهيه عن كذا.
الثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة.
فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
و من ذكره سبحانه وتعالى: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضاً من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.
وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة
الثالثة.
فأفضل الذكر: ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب
وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة بالله، ويهيج
المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن
التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا
يوجب شيئاً من هذه الآثار، وإن أثمر شيئاً منها فثمرة ضعيفة.الذكر أفضل من الدعاء
الذكرأفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
ولهذا جاء في الحديث:
{ من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين }.
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، وقد أخبر النبي
أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه الثناء والذكر، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجاباً.
فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من
الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وإفتقاره
واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل.قراءة القرأن أفضل من الذكر
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن
يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من
قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة،
وكذلك الذكر عقب السلام من الصلاة - ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير،
والتحميد - أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة،
والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما
يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القران، مثاله: أن يتفكر في ذنوبه،
فيحدث ذلك له توبةً واستغفاراً، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس
والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
فهكذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، فيعطي كل ذى حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة
لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر
والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جداً، يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها
منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما،
أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته
بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً وأعظم أجراً، وهذا يحتاج
إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها
حقه، وتنزيله في مرتبته.من فوائد الذكر
وفي الذكر نحو من مائة فائدة.
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الخامسة: أنه يقوي القلب والبدن.
السادسة: أنه ينور الوجه والقلب.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
التاسعة: أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام.
العاشرة: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان.
الحادية عشرة: أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل
الثانية عشرة: أنه يورثه القرب منه.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له باباً عظيماً من أبواب المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله.
الخامسة عشرة: أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
السادسة عشرة: أنه يورث حياة القلب.
السابعة عشرة: أنه قوة القلب والروح.
الثامنة عشرة: أنه يورث جلاء القلب من صدئه.
التاسعة عشرة: أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
العشرون: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعا لى.
الحادية والعشرون: أن ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده، يذكر بصاحبه عند الشدة.
الثانية والعشرون: أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة.
الثالثة والعشرون: أنه منجاة من عذاب الله تعالى.
الرابعة والعشرون: أنه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر.
الخامسة والعشرون: أنه سبب إشتغال اللسان عن الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل.
السادسة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين.
السابعة والعشرون: أنه يؤمّن العبد من الحسرة يوم القيامة.
الثامنة والعشرون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين.
التاسعة والعشرون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها.
الثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.
الحادية والثلاثون: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه و معا ده.
الثانـية والثلاثون: أنه ليس في الأعمال شيء يعم الأوقات والأحوال مثله.
الثالثة والثلاثون: أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط.
الرابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأمور، فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل.
الخامسة والثلاثون: أن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل.
السادسة والثلاثون: أن الذكر يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويقرب
البعيد، ويبعد القريب. فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه
وعزومه، ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات على
فوات حظوظه ومطالبه، ويفرق أيضاً ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره،
ويفرق أيضاً ما اجتمع على حربه من جند الشيطان، وأما تقريبه البعيد فإنه
يقرب إليه الآخرة، ويبعد القريب إليه وهي الدنيا.
السابعة والثلاثون: أن الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سباته.
الثامنة والثلاثون: أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون.
التا سعة والثلاثون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه
المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب
والولاية والمحبة والنصرة والتو فيق.
الأربعون: أن الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل.
الحادية والأربعون: أن الذكر رأس الشكر، فما شكر الله تعالى من لم يذكره.
الثانية والأربعون: أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكره.
الثالثة والأربعون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى.
الرابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه.
الخامسة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها والغفلة أصل معاداته ورأسها.
السادسة والأربعون: أنه جلاب للنعم، دافع للنقم بإذن الله.
السابعة والأربعون: أنه يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر.
الثامنة والأربعون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا، فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة.
التاسعة والأربعون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ليس لهم مجالس إلا هي.
الخمسون: أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته.
الحادية والخمسون: أن إدامة الذكر تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية أو مالية، أو بدنية مالية.
الثانية والخمسون: أن ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته،
فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعل قرة عينه فيها.
الثالثة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها ويؤمنه.
الرابعة والخمسون: أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطيق فعله بدونه.
الخامسة والخمسون: أن الذاكرين الله كثيراً هم السابقون من بين عمال الآخرة.
السادسة والخمسون: أن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، ومن صدقه الله تعالى رجي له أن يحشر مع الصادقين.
السابعة والخمسون: أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر، أمسكت الملائكة عن البناء.
الثامنة والخمسون: أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم.
التاسعة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق.
الستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب.
الحادية والستون: أن الجبال والقفار تتباهي وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها.
الثانية والستون: أن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق.
الثالثة والستون: أن للذكر لذة عظيمه من بين الأعمال الصالحة لا تشبهها لذة.
الرابعة والستون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والبقاع،
تكثيراً لشهود العبد يوم القيامة، فإن الأرض تشهد للذاكر يوم القيامة.